فصل: باب مَا يُحْذَرُ مِنْ زَهَرَةِ الدُّنْيَا وَالتَّنَافُسِ فِيهَا

مساءً 3 :4
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
28
الأحد
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*2*كِتَاب الرِّقَاقِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب الرقاق‏.‏

الصحة والفراغ ولا عيش إلا عيش الآخرة‏)‏ كذا لأبي ذر عن السرخسي وسقط عنده عن المستملي والكشميهني ‏"‏ الصحة والفراغ ‏"‏ ومثله للنسفي، وكذا للإسماعيلي لكن قال ‏"‏ وأن لا عيش ‏"‏ كذا لأبي الوقت لكن قال ‏"‏ باب لا عيش ‏"‏ وفي رواية كريمة عن الكشميهني ‏"‏ ما جاء في الرقاق وأن لا عيش إلا عيش، الآخرة ‏"‏ قال مغلطاي‏:‏ عبر جماعة من العلماء في كتبهم بالرقائق‏.‏

قلت‏:‏ منهم ابن المبارك والنسائي في ‏"‏ الكبرى ‏"‏ وروايته كذلك في نسخة معتمدة من رواية النسفي عن البخاري والمعنى واحد والرقاق والرقائق جمع رقيقة وسميت هذه الأحاديث بذلك لأن في كل منها ما يحدث في القلب رقة‏.‏

قال أهل اللغة‏:‏ الرقة الرحمة وضد الغلظ، ويقال للكثير الحياء رق وجهه استحياء‏.‏

وقال الراغب‏:‏ متى كانت الرقة في جسم فضدها الصفاقة كثوب رقيق وثوب صفيق، ومتى كانت في نفس فضدها القسوة كرقيق القلب وقاسي القلب‏.‏

وقال الجوهري‏:‏ وترقيق الكلام تحسينه‏.‏

*3*بَاب لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ هُوَ ابْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ قَالَ عَبَّاسٌ الْعَنْبَرِيُّ حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ أَبِيهِ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏أخبرنا المكي‏)‏ كذا للأكثر بالألف واللام في أوله، وهو اسم بلفظ النسب، وهو من الطبقة العليا من شيوخ البخاري، وقد أخرج أحمد عنه هذا الحديث بعينه‏.‏

قوله ‏(‏هو ابن أبي هند‏)‏ الضمير لسعيد لا لعبد الله، وهو من تفسير المصنف، ووقع في رواية أحمد عن مكي ووكيع جميعا ‏"‏ حدثنا عبد الله بن سعيد بن أبي هند ‏"‏ وعبد الله المذكور من صغار التابعين لأنه لقي بعض صغار الصحابة وهو أبو أمامة بن سهل‏.‏

قوله ‏(‏عن أبيه‏)‏ في رواية يحيى القطان عن عبد الله بن سعيد ‏"‏ حدثني أبي ‏"‏ أ خرجه الإسماعيلي قوله ‏(‏عن ابن عباس‏)‏ في الرواية التي بعدها ‏"‏ سمعت ابن عباس‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس‏:‏ الصحة والفراغ‏)‏ كذا لسائر الرواة، لكن عند أحمد ‏"‏ الفراغ والصحة ‏"‏ وأخرجه أبو نعيم في ‏"‏ المستخرج ‏"‏ من طريق إسماعيل بن جعفر وابن المبارك ووكيع كلهم عن عبد الله ابن سعيد بسنده ‏"‏ الصحة والفراغ نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس ‏"‏ ولم يبين لمن اللفظ، وأخرجه الدارمي عن مكي بن إبراهيم شيخ البخاري فيه كذلك بزيادة ولفظه ‏"‏ إن الصحة والفراغ نعمتان من نعم الله ‏"‏ والباقي سواء، وهذه الزيادة وهي قوله ‏"‏ من نعم الله ‏"‏ وقعت في رواية ابن عدي المشار إليها، وقوله ‏"‏نعمتان ‏"‏ تثنية نعمة وهي الحالة الحسنة، وقيل هي المنفعة المفعولة على جهة الإحسان للغير، والغبن بالسكون وبالتحريك‏.‏

وقال الجوهري‏:‏ هو في البيع بالسكون وفي الرأي بالتحريك، وعلى هذا فيصح كل منهما في هذا الخبر فإن من لا يستعملهما فيما ينبغي فقد غبن لكونه باعهما ببخس ولم يحمد رأيه في ذلك قال ابن بطال‏:‏ معنى الحديث أن المرء لا يكون فارغا حتى يكون مكفيا صحيح البدن فمن حصل له ذبك فليحرص على أن لا يغبن بأن يترك شكر الله على ما أنعم به عليه، ومن شكره امتثال أوامره واجتناب نواهيه، فمن فرط في ذلك فهو المغبون‏.‏

وأشار بقوله ‏"‏ كثير من الناس ‏"‏ إلى أن الذي يوفق لذلك قليل‏.‏

وقال ابن الجوزي‏:‏ قد يكون الإنسان صحيحا ولا يكون متفرغا لشغله بالمعاش، وقد يكون مستغنيا ولا يكون صحيحا، فإذا اجتمعا فغلب عليه الكسل عن الطاعة فهو المغبون، وتمام ذلك أن الدنيا مزرعة الآخرة، وفيها التجارة التي يظهر ربحها في الآخرة، فمن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله فهو المغبوط، ومن استعملهما في معصية الله فهو المغبون، لأن الفراغ يعقبه الشغل والصحة يعقبها السقم، ولو لم يكن إلا الهرم كما قيل‏:‏ يسر الفتى طول السلامة والبقا فكيف ترى طول السلامة يفعل يرد الفتى بعد اعتدال وصحة ينوء إذا رام القيام ويحمل وقال الطيبي‏:‏ ضرب النبي صلى الله عليه وسلم للمكلف مثلا بالتاجر الذي له رأس مال، فهو يبتغي الربح مع سلامة رأس المال، فطريقه في ذلك أن يتحرى فيمن يعامله ويلزم الصدق والحذق لئلا يغبن، فالصحة والفراغ رأس المال، وينبغي له أن يعامل الله بالإيمان، ومجاهدة النفس وعدو الدين، ليربح خيري الدنيا والآخرة وقريب منه قول الله تعالى ‏(‏هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم‏)‏ الآيات‏.‏

وعليه أن يجتنب مطاوعة النفس ومعاملة الشيطان لئلا يضيع رأس ماله مع الربح‏.‏

وقوله في الحديث ‏"‏ مغبون فيهما كثير من الناس ‏"‏ كقوله تعالى ‏(‏وقليل من عبادي الشكور‏)‏ فالكثير في الحديث في مقابلة القليل في الآية‏.‏

وقال القاضي وأبو بكر بن العربي‏:‏ اختلف في أول نعمة الله على العبد فقيل الإيمان، وقيل الحياة، وقيل الصحة، والأول أولى فإنه نعمة مطلقة، وأما الحياة والصحة فإنهما نعمة دنيوية، ولا تكون نعمة حقيقة إلا إذا صاحبت الإيمان وحينئذ يغبن فيها كثير من الناس أي يذهب ربحهم أو ينقص، فمن استرسل مع نفسه الأمارة بالسوء الخالدة إلى الراحة فترك المحافظة على الحدود والمواظبة على الطاعة فقد غبن، وكذلك إذا كان فارغا فإن المشغول قد يكون له معذرة بخلاف الفارغ فإنه يرتفع عنه المعذرة وتقوم عليه الحجة‏.‏

قوله ‏(‏وقال عباس العنبري‏)‏ هو بالمهملة والموحدة ابن عبد العظيم أحد الحفاظ، بصري من أوساط شيوخ البخاري، وقد أخرجه ابن ماجه عن العباس المذكور فقال في كتاب الزهد من السنن في ‏"‏ باب الحكمة منه ‏"‏‏:‏ حدثنا العباس بن عبد العظيم العنبري فذكره سواء، قال الحاكم‏:‏ هذا الحديث صدر به ابن المبارك كتابه فأخرجه عن عبد الله بن سعيد بهذا الإسناد‏.‏

قلت‏:‏ وأخرجه الترمذي والنسائي من طريقه قال الترمذي رواه غير واحد عن عبد الله بن سعيد فرفعوه، ووقفه بعضهم على ابن عباس وفي الباب عن أنس انتهى وأخرجه الإسماعيلي من طرق عن ابن المبارك، ثم من وجهين عن إسماعيل بن جعفر عن عبد الله بن سعيد، ثم من طريق بندار عن يحيى بن سعيد القطان عن عبد الله به ثم قال‏:‏ قال بندار ربما حدث به يحيى بن سعيد ولم يرفعه‏.‏

وأخرجه ابن عدي من وجه آخر عن ابن عباس مرفوعا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَهْ فَأَصْلِحْ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عن معاوية بن قرة‏)‏ أي ابن إياس المزني، ولقرة صحبة، ووقع في رواية آدم في فضائل الأنصار عن شعبة ‏"‏ حدثنا أبو إياس معاوية بن قرة ‏"‏ وإياس هو القاضي المشهور بالذكاء‏.‏

قوله ‏(‏عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة‏)‏ في رواية المستملي ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فأصلح الأنصار والمهاجرة‏)‏ تقدم في فضل الأنصار بيان الاختلاف على شعبة في لفظه وأنه عطف عليه رواية شعبة عن قتادة عن أنس وزيادة من زاد فيه أن ذلك كان يوم الخندق فطابق حديث سهل بن سعد المذكور في الذي بعده وزيادة من زاد فيه أنهم كانوا يقولون ‏"‏ نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا فأجابهم بذلك ‏"‏ وتقدم في غزوة الخندق من طريق عبد العزيز بن صهيب عن أنس أتم من ذلك كله، وفيه من طريق حميد عن أنس أن ذلك كان في غداة باردة ولم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم‏.‏

فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال ذلك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ حَدَّثَنَا الْفُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَنْدَقِ وَهُوَ يَحْفِرُ وَنَحْنُ نَنْقُلُ التُّرَابَ وَيَمُرُّ بِنَا فَقَالَ اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَهْ فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ تَابَعَهُ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏الفضيل بن سليمان‏)‏ هو بالتصغير وهو النميري، صدوق في حفظه شيء‏.‏

قوله ‏(‏وهو يحفر ونحن ننقل التراب‏)‏ تقدم في فضل الأنصار من رواية عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن سهل ‏"‏ خرج النبي صلى الله عليه وسلم وهم يحفرون الخندق ‏"‏ الحديث، ويجمع بأن منهم من كان يحفر مع النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم من كان ينقل التراب‏.‏

قوله ‏(‏وبصر بنا‏)‏ بفتح أوله وضم الصاد المهملة‏.‏

وفي رواية الكشميهني ‏"‏ ويمر بنا ‏"‏ من المرور‏.‏

قوله ‏(‏فاغفر‏)‏ تقدم في غزوة الخندق بلفظ ‏"‏ فاغفر للمهاجرين والأنصار ‏"‏ وأن الألفاظ المنقولة في ذلك بعضها موزون أكثرها غير موزون، ويمكن رده إلى الوزن بضرب من الزحاف، وهو غير مقصود إليه بالوزن فلا يدخل هو في الشعر‏.‏

وفي هذين الحديثين إشارة إلى تحقير عيش الدنيا لما يعرض له من التكدير وسرعة الفناء‏.‏

قال ابن المنير مناسبة إيراد حديث أنس وسهل مع حديث ابن عباس الذي تضمنته الترجمة أن الناس قد غبن كثير منهم في الصحة والفراغ لإيثارهم لعيش الدنيا على عيش الآخرة، فأراد الإشارة إلى أن العيش الذي اشتغلوا به ليس بشيء بل العيش الذي شغلوا عنه هو المطلوب، ومن فاته فهو المغبون‏.‏

*3*باب مَثَلِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ

وَقَوْلِهِ تَعَالَى أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب مثل الدنيا في الآخرة‏)‏ هذه الترجمة بعض لفظ حديث أخرجه مسلم والترمذي والنسائي من طريق قيس بن أبي حازم عن المستورد بن شداد رفعه ‏"‏ والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بم يرجع ‏"‏ وسنده إلى التابعي على شرط البخاري لأنه لم يخرج للمستورد، واقتصر على ذكر حديث سهل ابن سعد ‏"‏ موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها ‏"‏ فإن قدر السوط من الجنة إذا كان خيرا من الدنيا فيكون الذي يساويها مما في الجنة دون قدر السوط فيوافق ما دل عليه حديث المستورد، وقد تقدم شرح قوله ‏"‏ غدوة في سبيل الله ‏"‏ في كتاب الجهاد‏.‏

قال القرطبي‏:‏ هذا نحو قوله تعالى ‏(‏قل متاع الدنيا قليل‏)‏ وهذا بالنسبة إلى ذاتها وأما بالنسبة إلى الآخرة فلا قدر لها ولا خطر، وإنما أورد ذلك على سبيل التمثيل والتقريب وإلا فلا نسبة بين المتناهي وبين ما لا يتناهى، وإلى ذلك الإشارة بقوله ‏"‏ فلينظر بم يرجع ‏"‏ ووجهه أن القدر الذي يتعلق بالإصبع من ماء البحر لا قدر له ولا خطر وكذلك الدنيا بالنسبة إلى الآخرة والحاصل أن الدنيا كالماء الذي يعلق، في الأصبع من البحر والآخرة كسائر البحر‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ اختلف في ياء ‏"‏ يرجع ‏"‏ فذكر الرامهرمزي أن أهل الكوفة رووه بالمثناة قال فجعلوا الفعل للإصبع وهي مؤنثة، ورواه أهل البصرة بالتحتانية قال فجعلوا الفعل لليم‏.‏

قلت‏:‏ أو للواضع‏.‏

قوله ‏(‏وقوله تعالى‏:‏ إنما الحياة الدنيا لعب ولهو - إلى قوله - متاع الغرور‏)‏ كذا في رواية أبي ذر، وساق في رواية كريمة الآية كلها، وعلى هذا فتفتح الهمزة في أنما محافظة على لفظ التلاوة، فإن أول الآية ‏(‏اعلموا أنما الحياة الدنيا إلخ‏)‏ ولولا ما وقع من سياق بقية الآية لجوزت أن يكون المصنف أراد الآية التي في القتال وهي قوله تعالى ‏(‏إنما الحياة الدنيا لعب ولهو، وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم‏)‏ الآية‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ المراد بالحياة الدنيا في هذه الآية ما يختص بدار الدنيا من تصرف، وأما ما كان فيها من الطاعة وما لا بد منه مما يقيم الأود ويعين على الطاعة فليس مرادا هنا، والزينة ما يتزين به مما هو خارج عن ذات الشيء مما يحسن به الشيء، والتفاخر يقع بالنسب غالبا كعادة العرب، والتكاثر ذكر متعلقه في الآية، وصورة هذا المثال أن المرء يولد فينشأ فيقوى فيكسب المال والولد ويرأس، ثم يأخذ بعد ذلك في الانحطاط فيشيب ويضعف ويسقم وتصيبه النوائب من مرض ونقص في مال وعز، ثم يموت فيضمحل أمره ويصير ماله لغيره وتغير رسومه، فحاله كحال أرض أصابها مطر فنبت عليها العشب نباتا معجبا أنيقا ثم هاج أي يبس وأصفر ثم تحطم وتفرق إلى أن اضمحل، قال‏:‏ واختلف في المراد بالكفار، فقيل‏:‏ جمع كافر بالله لأنهما أشد تعظيما للدنيا وإعجابا بمحاسنها‏.‏

وقيل‏:‏ المراد بهم الزراع مأخوذ من كفر الحب في الأرض أي ستره بها، وخصهم بالذكر لأنهم أهل البصر بالنبات فلا يعجبهم إلا المعجب حقيقة، انتهى ملخصا‏.‏

وقوله في آخر الآية ‏(‏وفي الآخرة عذاب شديد‏)‏ قال الفراء‏:‏ لا يوقف على شديد لأن تقدير الكلام أنها إما عذاب شديد وإما مغفرة من الله ورضوان‏.‏

واستحسن غيره الوقف على شديد لما فيه من المبالغة في التنفير من الدنيا والتقدير للكافرين، ويبتدئ ‏(‏ومغفرة من الله ورضوان‏)‏ أي للمؤمنين‏.‏

وقيل‏:‏ إن قوله ‏(‏وفي الآخرة‏)‏ قسيم لقوله ‏(‏إنما الحياة الدنيا لعب ولهو‏)‏ والأول صفة الدنيا وهي اللعب وسائر ما ذكر، والثاني صفة الآخرة وهي عذاب شديد لمن عصى ومغفرة ورضوان لمن أطاع‏.‏

وأما قوله ‏(‏وما الحياة الدنيا إلخ‏)‏ فهو تأكيد لما سبق أي تغر من كن إليها، وأما التقى فهي له بلاغ إلى الآخرة‏.‏

ولما أورد الغزالي حديث المستورد في الإحياء عقبه بأن قال ما ملخصه‏:‏ أعلم أن مثل أهل الدنيا في غفلتهم كمثل قوم ركبوا سفينة فانتهوا إلى جزيرة معشبة فخرجوا لقضاء الحاجة فحذرهم الملاح من التأخر فيها وأمرهم أن يقيموا بقدر حاجتهم وحذرهم أن يقلع بالسفينة ويتركهم، فبادر فرجع سريعا فصادف أحسن الأمكنة وأوسعها فاستقر فيه، وانقسم الباقون فرقا الأولى استغرقت في النظر إلى أزهارها المونقة وأنهارها المطردة وثمارها الطيبة وجواهرها ومعادنها، ثم استيقظ فبادر إلى السفينة فلقي مكانا دون الأول فنجا في الجملة، الثانية كالأولى لكنهما أكبت على تلك الجواهر والثمار والأزهار ولم تسمح نفسه لتركها فحمل منها ما قدر عليه فتشاغل بجمعه وحمله فوصل إلى السفينة فوجد مكانا أضيق من الأول ولم تسمح نفسه برمي ما استصحبه فصار مثقلا به، ثم لم يلبث أن ذبلت الأزهار ويبست الثمار وهاجت الرياح فلم يجد بدا من إلقاء ما استصحبه حتى نجا بحشاشة نفسه، الثالثة تولجت في الغياض غفلت عن وصية الملاح ثم سمعوا نداءه بالرحيل فمرت فوجدت السفينة سارت فبقيت بما استصحبت في البر حتى هلكت، والرابعة اشتدت بها الغفلة عن سماع النداء وسارت السفينة فتقسموا فرقا منهم من افترسته السباع ومنهم من تاه على وجهه حتى هلك ومنهم من مات جوعا ومنهم من نهشته الحيات، قال‏:‏ فهذا مثل أهل الدنيا في اشتغالهم بحظوظهم العاجلة وغفلتهم عن عاقبة أمرهم‏.‏

ثم ختم بأن قال‏:‏ وما أقبح من يزعم أنه بصير عاقل أن يغتر بالأحجار من الذهب والفضة والهشيم من الأزهار والثمار وهو لا يصحبه شيء من ذلك بعد الموت‏.‏

والله المستعان‏.‏

*3*باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ كن في الدنيا كأنك غريب‏)‏ هكذا ترجم ببعض الخبر إشارة إلى ثبوت رفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأن من رواه موقوفا قصر فيه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو المُنْذِرِ الطُّفَاوِيُّ عَنْ سُلَيْمَانَ الْأَعْمَشِ قَالَ حَدَّثَنِي مُجَاهِدٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْكِبِي فَقَالَ كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرْ الصَّبَاحَ وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرْ الْمَسَاءَ وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عن الأعمش حدثني مجاهد‏)‏ أنكر العقيلي هذه اللفظة وهي ‏"‏ حدثني مجاهد ‏"‏ وقال‏:‏ إنما رواه الأعمش بصيغة ‏"‏ عن مجاهد ‏"‏ كذلك رواه أصحاب الأعمش عنه وكذا أصحاب الطفاوي عنه، وتفرد ابن المديني بالتصريح قال ولم يسمعه الأعمش عن مجاهد وإنما من ليث بن أبي سليم عنه فدلسه، وأخرجه ابن حبان في صحيحه من طريق الحسن بن قزعة ‏"‏ حدثنا محمد بن عبد الرحمن الطفاوي عن الأعمش عن مجاهد ‏"‏ بالعنعنة وقال‏:‏ قال الحسن بن قزعة ما سألني يحيى بن معين إلا عن هذا الحديث، وأخرجه ابن حبان في ‏"‏ روضة العقلاء ‏"‏ من طريق محمد بن أبي بكر المقدمي عن الطفاوي بالعنعنة أيضا وقال‏:‏ مكثت مدة أظن أن الأعمش دلسه عن مجاهد وإنما من ليث حتى رأيت علي بن المديني رواه عن الطفاوي فصرح بالتحديث، يشير إلى رواية البخاري التي في الباب‏.‏

قلت‏:‏ وقد أخرجه أحمد والترمذي من رواية سفيان الثوري عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد، وأخرجه ابن عدي في الكامل من طريق حماد بن شعيب عن أبي يحيى القتات عن مجاهد، وليث وأبو يحيى ضعيفان والعمدة على طريق الأعمش، وللحديث طريق أخرى أخرجه النسائي من رواية عبدة بن أبي لبابة عن ابن عمر مرفوعا، وهذا مما يقوي الحديث المذكور لأن رواته من رجال الصحيح، وإن كان اختلف في سماع عبدة من ابن عمر‏.‏

قوله ‏(‏أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي‏)‏ فيه تعين ما أبهم في رواية ليث عند الترمذي ‏"‏ أخذ ببعض جسدي ‏"‏ والمنكب بكسر الكاف مجمع العضد والكتف، وضبط في بعض الأصول بالتثنية‏.‏

قوله ‏(‏كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل‏)‏ قال الطيبي‏:‏ ليست أو للشك بل للتخيير والإباحة، والأحسن أن تكون بمعنى بل، فشبه الناسك السالك بالغريب الذي ليس له مسكن يأويه ولا مسكن يسكنه، ثم ترقى وأضرب عنه إلى عابر السبيل لأن الغريب قد يسكن في بلد الغربة بخلاف عابر السبيل القاصد لبلد شاسع وبينهما أودية مردية ومفاوز مهلكة وقطاع طريق فإن من شأنه أن لا يقيم لحظة ولا يسكن لمحة، ومن ثم عقبه بقوله ‏"‏ إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح إلخ ‏"‏ وبقوله ‏"‏ وعد نفسك في أهل القبور ‏"‏ والمعنى استمر سائرا ولا تفتر، فإنك إن قصرت انقطعت وهلكت في تلك الأودية، وهذا معنى المشبه به، وأما المشبه فهو قوله ‏"‏ وخذ من صحتك لمرضك ‏"‏ أي أن العمر لا يخلو عن صحة ومرض، فإذا كنت صحيحا فسر سير القصد وزد عليه بقدر قوتك ما دامت فيك قوة بحيث تكون ما بك من تلك الزيادة قائما مقام ما لعله يفوت حالة المرض والضعف، زاد عبدة في روايته عن ابن عمر ‏"‏ اعبد الله كأنك تراه وكن في الدنيا ‏"‏ الحديث، وزاد ليث في روايته ‏"‏ وعد نفسك في أهل القبور ‏"‏ وفي رواية سعيد بن منصور ‏"‏ وكأنك عابر سبيل ‏"‏ وقال ابن بطال‏:‏ لما كان الغريب قليل الانبساط إلى الناس بل هو مستوحش منهم إذ لا يكاد يمر بمن يعرفه مستأنس به فهو دليل في نفسه خائف، وكذلك عابر السبيل لا ينفذ في سفره إلا بقوته عليه وتخفيفه من الأثقال غير مثبت بما يمنعه من قطع سفره معه زاده وراحلته يبلغانه إلى بغيته من قصده شبهه بهما، وفي ذلك إشارة إلى إيثار الزهد في الدنيا وأخذ البلغة منها والكفاف، فكما لا يحتاج المسافر إلى أكثر مما يبلغه إلى غاية سفره فكذلك لا يحتاج المؤمن في الدنيا إلى أكثر مما يبلغه المحل‏.‏

وقال غيره‏:‏ هذا الحديث أصل في الحث على الفراغ عن الدنيا والزهد فيها والاحتقار لها والقناعة فيها بالبلغة‏.‏

وقال النووي‏:‏ معنى الحديث لا تركن إلى الدنيا ولا تتخذها وطنا ولا تحدث نفسك بالبقاء فيها ولا تتعلق منها بما لا يتعلق به الغريب في غير وطنه‏.‏

وقال غيره‏:‏ عابر السبيل هو المار على الطريق طالبا وطنه، فالمرء في الدنيا كعبد أرسله سيده في حاجة إلى غير بلده، فشأنه أن يبادر بفعل ما أرسل فيه ثم يعود إلى وطنه ولا يتعلق بشيء غير ما هو فيه وقال غيره‏:‏ المراد أن ينزل المؤمن نفسه في الدنيا منزلة الغريب فلا يعلق قلبه بشيء، من بلد الغربة، بل قلبه متعلق بوطنه الذي يرجع إليه، ويجعل إقامته في الدنيا ليقضي حاجته وجهازه للرجوع إلى وطنه، وهذا شأن الغريب‏.‏

أو يكون كالمسافر لا يستقر في مكان بعينه بل هو دائم السير إلى بلد الإقامة‏.‏

واستشكل عطف عابر السبيل على الغريب وقد تقدم جواب الطيبي، وأجاب الكرماني بأنه من عطف العام على الخاص، وفيه نوع من الترقي لأن تعلقاته أقل من تعلقات الغريب المقيم‏.‏

قوله ‏(‏وكان ابن عمر يقول‏)‏ في رواية ليث ‏"‏ وقال لي ابن عمر إذا أصبحت ‏"‏ الحديث‏.‏

قوله ‏(‏وخذ من صحتك‏)‏ أي زمن صحتك ‏(‏لمرضك‏)‏ في رواية ليث ‏"‏ لسقمك ‏"‏ والمعنى اشتغل في الصحة بالطاعة بحيث لو حصل تقصير في المرض لا يجبر بذلك‏.‏

قوله ‏(‏ومن حياتك لموتك‏)‏ في رواية ليث ‏"‏ قبل موتك ‏"‏ وزاد ‏"‏ فإنك لا تدري يا عبد الله ما اسمك غدا ‏"‏ أي هل يقال له شقي أو سعيد، ولم يرد اسمه الخاص به فإنه لا يتغير‏.‏

وقيل المراد هل هو حي أو ميت‏.‏

وهذا القدر الموقوف من هذا تقدم محصل معناه في حديث ابن عباس أول كتاب الرقاق، وجاء معناه من حديث ابن عباس أيضا مرفوعا أخرجه الحاكم ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل وهو يعظه‏:‏ اغتنم خمسا قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك ‏"‏ وأخرجه ابن المبارك في الزهد بسند صحيح من مرسل عمرو بن ميمون، قال بعض العلماء‏:‏ كلام ابن عمر منتزع من الحديث المرفوع، وهو متضمن لنهاية قصر الأمل، وأن العاقل ينبغي له إذا أمسى لا ينتظر الصباح وإذا أصبح لا ينتظر المساء، بل يظن أن أجله مدركه قبل ذلك‏.‏

قال‏:‏ وقوله ‏"‏ خذ من صحتك إلخ ‏"‏ أي اعمل ما تلقى نفعه بعد موتك، وبادر أيام صحتك بالعمل الصالح فإن المرض قد يطرأ فيمتنع من العمل فيخشى على من فرط في ذلك أن يصل إلى المعاد بغير زاد‏.‏

ولا يعارض ذلك الحديث الماضي في الصحيح ‏"‏ إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له ما كان يعمل صحيحا مقيما ‏"‏ لأنه ورد في حق من يعمل، والتحذير الذي في حديث ابن عمر في حق من لم يعمل شيئا، فإنه إذا مرض ندم على تركه العمل، وعجز لمرضه عن العمل فلا يفيده الندم‏.‏

وفي الحديث مس المعلم أعضاء المتعلم عند التعليم والموعوظ عند الموعظة وذلك للتأنيس والتنبيه، ولا يفعل ذلك غالبا إلا بمن يميل إليه، وفيه مخاطبة الواحد وإرادة الجمع، وحرص النبي صلى الله عليه وسلم على إيصال الخير لأمته، والحض على ترك الدنيا والاقتصار على ما لا بد منه

*3*باب فِي الْأَمَلِ وَطُولِهِ

وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ وَقَوْلِهِ ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمْ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ارْتَحَلَتْ الدُّنْيَا مُدْبِرَةً وَارْتَحَلَتْ الْآخِرَةُ مُقْبِلَةً وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلَا حِسَابَ وَغَدًا حِسَابٌ وَلَا عَمَلٌ بِمُزَحْزِحِهِ بِمُبَاعِدِهِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب في الأمل وطوله‏)‏ الأمل بفتحتين رجاء ما تحبه النفس من طول عمر وزيادة غنى، وهو قريب المعنى من التمني‏.‏

وقيل الفرق بينهما أن الأمل ما تقدم له سبب والتمني بخلافه‏.‏

وقيل لا ينفك الإنسان من أمل، فإن فاته ما أمله عول على التمني‏.‏

ويقال الأمل إرادة الشخص تحصيل شيء يمكن حصوله فإذا فاته تمناه‏.‏

قوله ‏(‏وقوله تعالى فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز الآية‏)‏ كذا للنسفي وساق في رواية كريمة وغيرها إلى الغرور، وقع في رواية أبي ذر إلى قوله ‏"‏ فقد فاز ‏"‏ والمطلوب هنا ما سقط من روايته وهو الإشارة إلى أن متعلق الأمل ليس بشيء لأنه متاع الغرور، شبه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على المستام ويغره حتى يشتريه ثم يتبين له فساده ورداءته، والشيطان هو المدلس وهو الغرور بالفتح الناشئ عنه الغرور بالضم، وقد قرئ في الشاذ هنا بفتح الغين أي متاع الشيطان، ويجوز أن يكون بمعنى المفعول وهو المخدوع فتتفق القراءتان‏.‏

قوله ‏(‏بمزحزحه‏:‏ بمباعده‏)‏ وقع هذا في رواية النسفي وكذا لأبي ذر عن المستملي والكشميهني، والمراد أن معنى قوله ‏(‏زحزح‏)‏ في هذه الآية فمن زحزح بوعد، وأصل الزحزحة الإزالة، ومن أزيل عن الشيء فقد بوعد منه وقال للكرماني‏:‏ مناسبة هذه الآية للترجمة أن في أول الآية ‏(‏كل نفس ذائقة الموت‏)‏ وفي آخرها ‏(‏وما الحياة الدنيا‏)‏ أو أن قوله ‏(‏فمن زحزح‏)‏ مناسب لقوله ‏(‏وما هو بمزحزحه‏)‏ وفي تلك الآية ‏(‏يود أحدهم لو يعمر ألف سنة‏)‏ ‏.‏

قوله ‏(‏وقوله ذرهم يأكلوا ويتمتعوا الآية‏)‏ كذا لأبي ذر، وساق في رواية كريمة وغيرها إلى ‏(‏يعلمون‏)‏ وسقط قوله ‏"‏ وقوله ‏"‏ للنسفي، قال الجمهور هي عامة‏.‏

وقال جماعة هي في الكفار خاصة والأمر فيه للتهديد، وفيه زجر عن الانهماك في ملاذ الدنيا‏.‏

قوله ‏(‏وقال علي بن أبي طالب ارتحلت الدنيا مدبرة إلخ‏)‏ هذه قطعة من أثر لعلي جاء عنه موقوفا ومرفوعا، وفي أوله شيء مطابق للترجمة صريحا، فعند ابن أبي خشيبة في ‏"‏ المصنف ‏"‏ وابن المبارك في ‏"‏ الزهد ‏"‏ من طرق عن إسماعيل بن أبي خالد وزبيد الأيامي عن رجل من بني عامر، وسمي في رواية لابن أبي شيبة مهاجر العامري، وكذا في ‏"‏ الحلية ‏"‏ من طريق أبي مريم عن زبيد عن مهاجر بن عمير قال‏:‏ قال علي ‏"‏ إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسى الآخرة‏.‏

ألا وإن الدنيا ارتحلت مدبرة ‏"‏ الحديث كالذي في الأصل سواء، ومهاجر المذكور هو العامري المبهم قبله وما عرفت حاله، وقد جاء مرفوعا أخرجه ابن أبي الدنيا في ‏"‏ كتاب قصر الأمل ‏"‏ من رواية اليمان بن حذيفة عن علي بن أبي حفصة مولى علي ‏"‏ عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ إن أشد ما أتخوف عليكم خصلتين ‏"‏ فذكر معناه واليمان وشيخه لا يعرفان، وجاء من حديث جابر أخرجه أبو عبد الله بن منده من طريق المنكدر بن محمد ابن المنكدر عن أبيه عن جابر مرفوعا، والمنكدر ضعيف، وتابعه علي بن أبي علي اللهبي عن ابن المنكدر بتمامه وهو ضعيف أيضا وفي بعض طرق هذا الحديث ‏"‏ فاتباع الهوى يصرف بقلوبكم عن الحق، وطول الأمل يصرف هممكم إلى الدنيا‏"‏‏.‏

ومن كلام علي أخذ بعض الحكماء قوله ‏"‏ الدنيا مدبرة والآخرة مقبلة فعجب لمن يقبل على المدبرة ويدبر على المقبلة ‏"‏ وورد في ذم الاسترسال مع الأمل حديث أنس رفعه ‏"‏ أربعة من الشقاء‏:‏ جمود العين، وقسوة القلب، وطول الأمل، والحرص على الدنيا ‏"‏ أخرجه البزار‏:‏ وعن عبد الله بن عمرو رفعه ‏"‏ صلاح أول هذه الأمة بالزهادة واليقين، وهلاك آخرها بالبخل والأمل ‏"‏ أخرجه الطبراني وابن أبي الدنيا، وقيل إن قصر الأمل حقيقة الزهد، وليس كذلك بل هو سبب، لأن من قصر أمله زهد، ويتولد من طول الأمل الكسل عن الطاعة، والتسويف بالتوبة، والرغبة في الدنيا، والنسيان للآخرة، والقسوة في القلب، لأن رقته وصفاءه إنما يقع بتذكير الموت والقبر والثواب والعقاب وأهوال القيامة كما قال تعالى ‏(‏فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم‏)‏ وقيل‏:‏ من قصر أمله قل همه وتنور قلبه، لأنه إذا استحضر الموت اجتهد في الطاعة، وقل همه، ورضي بالقليل‏.‏

وقال ابن الجوزي‏:‏ الأمل مذموم للناس إلا للعلماء، فلولا أملهم لما صنفوا ولا ألفوا‏.‏

وقال غيره‏:‏ الأمل مطبوع في جميع بني آدم كما سيأتي في الحديث الذي في الباب بعده ‏"‏ لا يزال قلب الكبير شابا في اثنتين حب الدنيا وطول الأمل ‏"‏ وفي الأمل سر لطيف لأنه لولا الأمل ما تهنى أحد بعيش ولا طابت نفسه أن يشرع في عمل من أعمال الدنيا، وإنما المذموم منه الاسترسال فيه وعدم الاستعداد لأمر الآخرة، فمن سلم من ذلك لم يكلف بإزالته‏.‏

له في أثر علي ‏"‏ فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل ‏"‏ جعل اليوم نفس العمل والمحاسبة مبالغة وهو كقولهم نهاره صائم، والتقدير في الموضعين ولا حساب فيه ولا عمل فيه، وقوله ‏"‏ولا حساب ‏"‏ بالفتح بغير تنوين ويجوز الرفع منونا، وكذا قوله ولا عمل

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ مُنْذِرٍ عَنْ رَبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ خَطَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا مُرَبَّعًا وَخَطَّ خَطًّا فِي الْوَسَطِ خَارِجًا مِنْهُ وَخَطَّ خُطَطًا صِغَارًا إِلَى هَذَا الَّذِي فِي الْوَسَطِ مِنْ جَانِبِهِ الَّذِي فِي الْوَسَطِ وَقَالَ هَذَا الْإِنْسَانُ وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ أَوْ قَدْ أَحَاطَ بِهِ وَهَذَا الَّذِي هُوَ خَارِجٌ أَمَلُهُ وَهَذِهِ الْخُطَطُ الصِّغَارُ الْأَعْرَاضُ فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏يحيى بن سعيد‏)‏ هو القطان، وسفيان هو الثوري، وأبوه سعيد بن مسروق، ومنذر هو ابن يعلى الثوري ووقع في رواية الإسماعيلي ‏"‏ أبو يعلى ‏"‏ فقط، والربيع بن خثيم بمعجمة ومثلثة مصغر، وعبد الله هو ابن مسعود ومن الثوري فصاعدا كوفيون‏.‏

قوله ‏(‏خط النبي صلى الله عليه وسلم خطا مربعا‏)‏ الخط الرسم والشكل، والمربع المستوى الزوايا قوله ‏(‏وخط خطا في الوسط خارجا منه وخط خططا صغارا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط‏)‏ قيل هذه صفة الخط‏:‏ والأول المعتمد، وسياق الحديث يتنزل عليه، فالإشارة بقوله ‏"‏ هذا الإنسان ‏"‏ إلى النقطة الداخلة، وبقوله ‏"‏ وهذا أجله محيط به ‏"‏ إلى المربع، وبقوله ‏"‏ وهذا الذي هو خارج أمله ‏"‏ إلى الخط المستطيل المنفرد، وبقوله ‏"‏ وهذه إلى الخطوط ‏"‏ وهي مذكورة على سبيل المثال لا أن المراد انحصارها في عدد معين، ويؤيده قوله في حديث أنس بعده ‏"‏ إذ جاءه الخط الأقرب ‏"‏ فإنه أشار به إلى الخط المحيط به، ولا شك أن الذي يحيط به أقرب إليه من الخارج عنه، وقوله ‏"‏خططا ‏"‏ بضم المعجمة والطاء الأولى للأكثر ويجوز فتح الطاء، وقوله ‏"‏هذا إنسان ‏"‏ مبتدأ وخبر أي هذا الخط هو الإنسان على التمثيل‏.‏

قوله ‏(‏وهذه الخطط‏)‏ بالضم فيهما أيضا‏.‏

وفي رواية المستملي والسرخسي ‏"‏ وهذه الخطوط‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏الأعراض‏)‏ جمع عرض بفتحتين وهو ما ينتفع به له الدنيا في الخير وفي الشر، والعرض بالسكون ضد الطويل، ويطلق على ما يقابل النقدين والمراد هنا الأول‏.‏

قوله ‏(‏نهشه‏)‏ بالنون والشين المعجمة أي أصابه‏.‏

واستشكلت هذه الإشارات الأربع مع أن الخطوط ثلاثة فقط وأجاب الكرماني بأن للخط الداخل اعتبارين‏:‏ فالمقدار الداخل منه هر الإنسان والخارج أمله، والمراد بالأعراض الآفات العارضة له فإن سلم من هذا لم يسلم من هذا وإن سلم من الجميع ولم تصبه آفة من مرض أو فقد مال أو غير ذلك بغته الأجل‏.‏

والحاصل أن من لم يمت بالسيب مات بالأجل‏.‏

وفي الحديث إشارة إلى الحض على قصر الأمل والاستعداد لبغتة الأجل‏.‏

وعبر بالنهش وهو لدغ ذات السم مبالغة في الإصابة والإهلاك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ خَطَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُطُوطًا فَقَالَ هَذَا الْأَمَلُ وَهَذَا أَجَلُهُ فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَهُ الْخَطُّ الْأَقْرَبُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا مسلم‏)‏ هو ابن إبراهيم، وثبت كذلك في رواية الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان عن عبد العزيز بن سلام عنه‏.‏

قوله ‏(‏همام‏)‏ هو ابن يحيى وثبت كذلك في رواية الإسماعيلي‏.‏

قوله ‏(‏عن إسحاق‏)‏ في رواية الإسماعيلي ‏"‏ حدثنا إسحاق ‏"‏ وهو ابن أخي أنس لأمه‏.‏

قوله ‏(‏خطوطا‏)‏ قد فسرت في حديث ابن مسعود‏.‏

قوله ‏(‏فبينما هو كذلك‏)‏ في رواية الإسماعيلي ‏"‏ يأمل ‏"‏ وعند البيهقي في الزهد من وجه عن إسحاق سياق المتن أتمم منه ولفظه ‏"‏ خط خطوطا وخط خطا ناحية ثم قال هل تدرون ما هذا‏؟‏ هذا مثل ابن آدم ومثل التمني، وذلك الخط الأمل، بينما يأمل إذ جاءه الموت ‏"‏ وإنما جمع الخطوط ثم اقتصر في التفصيل على اثنين اختصارا، والثالث الإنسان، والرابع الآفات‏.‏

وقد أخرج الترمذي حديث أنس من رواية حماد بن سلمة عن عبيد الله بن أبي بكر ابن أنس عن أنس بلفظ ‏"‏ هذا ابن آدم وهذا أجله، ووضع يده عند قفاه ثم بسطها فقال‏:‏ وثم أمله، وثم أجله ‏"‏ إن أجله أقرب إليه من أمله‏.‏

قال الترمذي‏:‏ وفي الباب عن أبي سعيد‏.‏

قلت‏:‏ أخرجه أحمد من رواية علي بن علي عن أبي المتوكل عنه ولفظه ‏"‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم غرز عودا بين يديه ثم غرز إلى جنبه آخر ثم غرز الثالث فأبعده ثم قال‏:‏ هذا الإنسان وهذا أجله وهذا أمله، والأحاديث متوافقة على أن الأجل أقرب من الأمل

*3*باب مَنْ بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً فَقَدْ أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَيْهِ فِي الْعُمُرِ

لِقَوْلِهِ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ يَعْنِي الشَّيْبَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر، لقوله تعالى‏:‏ أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير‏)‏ كذا للأكثر، وسقط قوله ‏"‏ لقوله تعالى ‏"‏ وفي رواية النسفي ‏"‏ يعني الشيب ‏"‏ وثبت قوله يعني الشيب في رواية أبي ذر وحده، وقد اختلف أهل التفسير فيه فالأكثر على أن المراد به الشيب لأنه يأتي في سن الكهولة فما بعدها، وهو علامة لمفارقة سن الصبي الذي هو مظنة اللهو‏.‏

وقال علي‏:‏ المراد به النبي صلى الله عليه وسلم، واختلفوا أيضا في المراد بالتعمير في الآية على أقوال‏:‏ أحدها أنه أربعون سنة، نقله الطبري عن مسروق وغيره، وكأنه أخذه من قوله ‏"‏ بلغ أشده وبلغ أربعين سنة‏"‏‏.‏

والثاني ست وأربعون سنة أخرجه ابن مردويه من طريق مجاهد عن ابن عباس وتلا الآية، ورواته رجال الصحيح، إلا ابن خثيم فهو صدوق وفيه ضعف‏.‏

والثالث سبعون سنة أخرجه ابن مردويه من طريق عطاء عن ابن عباس ‏(‏أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير‏)‏ فقال نزلت تعييرا لأبناء السبعين، وفي إسناده يحيى بن ميمون وهو ضعيف الرابع ستون، وتمسك قائله بحديث الباب وورد في بعض طرقه التصريح بالمراد، فأخرجه أبو نعيم في ‏"‏ المستخرج ‏"‏ من طريق سعيد بن سليمان عن عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة بلفظ ‏"‏ العمر الذي أعذر الله فيه لابن آدم ستون سنة‏:‏ أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر ‏"‏ وأخرجه ابن مردويه من طريق حماد بن زيد عن أبي حازم عن سهل بن سعد مثله‏.‏

الخامس التردد بين الستين والسبعين أخرجه ابن مردويه من طريق أبي معشر عن سعيد عن أبي هريرة بلفظ ‏"‏ من عمر ستين أو سبعين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر ‏"‏ وأخرجه أيضا من طريق معتمر بن سليمان عن معمر عن رجل من غفار يقال له محمد عن سعيد عن أبي هريرة بلفظ ‏"‏ من بلغ الستين والسبعين ‏"‏ ومحمد الغفاري هو ابن معن الذي أخرجه البخاري من طريقه اختلف عليه في لفظه، كما اختلف على سعيد المقبري في لفظه، وأصح الأقوال في ذلك ما ثبت في حديث الباب ويدخله في هذا حديث ‏"‏ معترك المنايا ما بين ستين وسبعين ‏"‏ أخرجه أبو يعلى من طريق إبراهيم بن الفضل عن سعيد عن أبي هريرة، وإبراهيم ضعيف‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ مُطَهَّرٍ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ مَعْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْغِفَارِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَى امْرِئٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ حَتَّى بَلَّغَهُ سِتِّينَ سَنَةً تَابَعَهُ أَبُو حَازِمٍ وَابْنُ عَجْلَانَ عَنْ الْمَقْبُرِيِّ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا عبد السلام بن مطهر‏)‏ بضم أوله وفتح المهملة وتشديد الهاء المفتوحة وشيخه عمر بن علي هو المقدمي، وقد تقدم بهذا الإسناد إلى أبي هريرة حديث آخر وذكرت أن عمر مدلس وأنه أورده بالعنعنة وبينت عذر البخاري في ذلك أنه وجد من وجه آخر مصرح فيه بالسماع، وأما هذا الحديث فقد أخرجه أحمد عن عبد الرزاق عن معمر عن رجل من بني غفار عن سعيد المقبري بنحوه، وهذا الرجل المبهم هو معن بن محمد الغفاري، فهي متابعة قوية لعمر بن علي أخرجه الإسماعيلي من وجه آخر عن معمر، ووقع لشيخه فيه وهم ليس هذا موضع بيانه‏.‏

قوله ‏(‏أعذر الله‏)‏ الإعذار إزالة العذر، والمعنى أنه لم يبق له اعتذار كأن يقول لو مد لي في الأجل لفعلت ما أمرت به، يقال أعذر إليه إذا بلغه أقصى الغاية في العذر ومكنه منه‏.‏

وإذا لم يكن له عذر في ترك الطاعة مع تمكنه منها بالعمر الذي حصل له فلا ينبغي له حينئذ إلا الاستغفار والطاعة والإقبال على الآخرة بالكلية، ونسبة الإعذار إلى الله مجازية والمعنى أن الله لم يترك للعبد سببا في الاعتذار يتمسك به‏.‏

والحاصل أنه لا يعاقب إلا بعد حجه‏.‏

قوله ‏(‏أخر أجله‏)‏ يعني أطاله ‏(‏حتى بلغه ستين سنة‏)‏ وفي رواية معمر ‏"‏ لقد أعذر الله إلى عبد أحياه حتى يبلغ ستين سنة أو سبعين سنة، لقد أعذر الله إليه، لقد أعذر الله إليه‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏تابعه أبو حازم وابن عجلان عن المقبري‏)‏ أما متابعة أبي حازم وهو سلمة بن دينار فأخرجها الإسماعيلي من طريق عبد العزيز بن أبي حازم ‏"‏ حدثني أبي عن سعيد المقبري عن أبي هريرة ‏"‏ كذا أخرجه الحفاظ عن عبد العزيز بن أبي حازم وخالفهم هارون بن معروف فرواه عن ابن أبي حازم عن أبيه عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة أخرجه الإسماعيلي، وإدخاله بين سعيد وأبي هريرة فيه رجلا من المزيد في متصل الأسانيد، وقد أخرجه أحمد والنسائي من رواية يعقوب بن عبد الرحمن عن أبي حازم عن سعيد المقبري عن أبي هريرة بغير واسطة‏.‏

وأما طريق محمد بن عجلان فأخرجه أحمد من رواية سعيد بن أبي أيوب عن محمد بن عجلان عن سعيد ابن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة بلفظ ‏"‏ من أتت عليه ستون سنة فقد أعذر الله إليه في العمر ‏"‏ قال ابن بطال‏:‏ إنما كانت الستون حدا لهذا لأنها قريبة من المعترك وهي سن الإنابة والخشوع وترقب المنية فهذا إعذار بعد إعذار لطفا من الله بعباده حتى نقلهم من حالة الجهل إلى حالة العلم، ثم أعذر إليهم فلم يعاقبهم إلا بعد الحجج الواضحة وإن كانوا فطروا على حب الدنيا وطول الأمل لكنهم أمروا بمجاهدة النفس في ذلك ليتمثلوا ما أمروا به من الطاعة وينزجروا عما نهوا عنه من المعصية‏.‏

وفي الحديث إشارة إلى أن استكمال الستين مظنة لانقضاء الأجل‏.‏

وأصرح من ذلك ما أخرجه الترمذي بسند حسن إلى أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رفعه ‏"‏ أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك‏"‏‏.‏

قال بعض الحكماء الأسنان أربعة سن الطفولية، ثم الشباب، ثم الكهولة، ثم الشيخوخة وهي آخر الأسنان، وغالب ما يكون ما بين الستين والسبعين فحينئذ يظهر ضعف القوة بالنقص والانحطاط، فينبغي له الإقبال على الآخرة بالكلية لاستحالة أن يرجع إلى الحالة الأولى من النشاط والقوة‏.‏

وقد استنبط منه بعض الشافعية أن من استكمل ستين فلم يحج مع القدرة فإنه يكون مقصرا‏:‏ ويأثم إن مات قبل أن يحج، بخلاف ما دون ذلك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا أَبُو صَفْوَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَا يَزَالُ قَلْبُ الْكَبِيرِ شَابًّا فِي اثْنَتَيْنِ فِي حُبِّ الدُّنْيَا وَطُولِ الْأَمَلِ قَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يُونُسُ وَابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدٌ وَأَبُو سَلَمَةَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏يونس‏)‏ هو ابن يزيد الأيلي‏.‏

قوله ‏(‏لا يزال قلب الكبير شابا في اثنتين‏:‏ في حب الدنيا وطول الأمل‏)‏ المراد بالأمل هنا محبة طول العمر، فسره حديث أنس الذي بعده في آخر الباب، وسماه شابا إشارة إلى قوة استحكام حبه للمال، أو هو من باب المشاكلة والمطابقة‏.‏

قوله ‏(‏قال ليث عن يونس، وابن وهب عن يونس، عن ابن شهاب أخبرني سعيد‏)‏ هو ابن المسيب ‏(‏وأبو سلمة‏)‏ يعني كلاهما عن أبي هريرة‏.‏

أما رواية ليث وهو ابن سعد فوصلها الإسماعيلي من طريق أبي صالح كاتب الليث ‏"‏ حدثنا الليث حدثني يونس هو ابن يزيد عن ابن شهاب أخبرني سعيد وأبو سلمة عن أبي هريرة بلفظه إلا أنه قال ‏"‏ المال ‏"‏ بدل الدنيا‏.‏

وأما رواية ابن وهب فوصلها مسلم عن حرملة عنه بلفظ ‏"‏ قلب الشيخ شاب على حب اثنتين طول الحياة وحب المال ‏"‏ وأخرجه الإسماعيلي من طريق أيوب بن سويد عن يونس مثل رواية ابن وهب سواء، وأخرجه البيهقي من وجه آخر عن أبي هريرة بزيادة في أوله قال ‏"‏ إن ابن آدم يضعف جسمه وينحل لحمه من الكبر وقلبه شاب‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْبَرُ ابْنُ آدَمَ وَيَكْبَرُ مَعَهُ اثْنَانِ حُبُّ الْمَالِ وَطُولُ الْعُمُرِ رَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا مسلم‏)‏ كذا لأبي ذر غير منسوب ولغيره ‏"‏ حدثنا مسلم بن إبراهيم ‏"‏ وهشام هو الدستوائي‏.‏

قوله ‏(‏يكبر‏)‏ بفتح الموحدة أي يطعن في السن‏.‏

قوله ‏(‏ويكبر معه‏)‏ بضم الموحدة أي يعظم، ويجوز الفتح، ويجوز الضم في الأول تعبيرا عن الكثرة وهي كثرة عدد السنين بالعظم‏.‏

قوله ‏(‏اثنتان حب المال وطول العمر‏)‏ في رواية أبي عوانة عن قتادة عند مسلم ‏"‏ يهرم ابن آدم ويشب معه اثنتان الحرص على المال، والحرص على العمر ‏"‏ ثم أخرجه من طريق معاذ بن هشام عن أبيه قاله بمثله‏.‏

قوله ‏(‏رواه شعبة عن قتادة‏)‏ وصله مسلم من رواية محمد بن جعفر عن شعبة ولفظه ‏"‏ سمعت قتادة يحدث عن أنس، بنحوه ‏"‏ وأخرجه أحمد عن محمد بن جعفر بلفظ ‏"‏ يهرم ابن آدم ويشب منه اثنتان ‏"‏ وفائدة هذا التعليق دفع توهم الانقطاع فيه لكون قتادة مدلسا وقد عنعنه، لكن شعبة لا يحدث عن المدلسين إلا بما علم أنه داخل في سماعهم فيستوي في ذلك التصريح والعنعنة بخلاف غيره‏.‏

قال النووي هذا مجاز واستعارة ومعناه‏:‏ أن قلب الشيخ كامل الحب للمال متحكم في ذلك كاحتكام قوة الشاب في شبابه، هذا صوابه، وقيل في تفسيره غير هذا مما لا يرتضى، وكأنه أشار إلى قول عياض‏:‏ هذا الحديث فيه من المطابقة وبديع الكلام الغاية، وذلك أن الشيخ من شأنه أن تكون آماله وحرصه على الدنيا قد بليت على بلاء جسمه إذا انقضى عمره ولم يبق له إلا انتظار الموت، فلما كان الأمر بضده ذم‏.‏

قال‏:‏ والتعبير بالشاب إشارة إلى كثرة الحرص وبعد الأمل الذي هو في الشباب أكثر وبهم أليق لكثرة الرجاء عادة عندهم في طول أعمارهم ودوام استمتاعهم ولذاتهم في الدنيا‏.‏

قال القرطبي‏:‏ في هذا الحديث كراهة الحرص على طول العمر وكثرة المال وأن ذلك ليس بمحمود‏.‏

وقال غيره‏:‏ الحكمة في التخصيص بهذين الأمرين أن أحب الأشياء إلى ابن آدم نفسه، فهو راغب في بقائها فأحب لذلك طول العمر، وأحب المال لأنه من أعظم الأسباب في دوام الصحة التي ينشأ عنها غالبا طول العمر، فكلما أحس بقرب نفاد ذلك أشتد حبه له ورغبته في دوامه‏.‏

واستدل به على أن الإرداة في القلب خلافا لمن قال إنها في الرأس، قاله المازري‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ قال الكرماني كان ينبغي له أن يذكر هذا الحديث في الباب السابق يعني ‏"‏ باب في الأمل وطوله‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ ومناسبته للباب الذي ذكره فيه ليست ببعيدة ولا خفية‏.‏

*3*باب الْعَمَلِ الَّذِي يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ

فِيهِ سَعْدٌ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب العمل الذي يبتغي به وجه الله تعالى‏)‏ ثبتت هذه الترجمة للجميع، وسقطت من شرح ابن بطال فأضاف حديثها عن عتبان الذي قبله، ثم أخذ في بيان المناسبة لترجمة من بلغ ستين سنة فقال‏:‏ خشي المصنف أن يظن أن من بلغ الستين وهو مواظب على المعصية أن ينفذ عليه الوعيد، فأورد هذا الحديث المشتمل على أن كلمة الإخلاص تنفع قائلها، إشارة إلى أنها لا تخص أهل عمر دون عمر ولا أهل عمل دون عمل، قال‏:‏ ويستفاد منه أن التوبة مقبولة ما لم يصل إلى الحد الذي ثبت النقل فيه أنها لا تقبل معه وهو الوصول إلى الغرغرة‏.‏

وتبعه ابن المنير فقال‏:‏ يستفاد منه أن الأعذار لا تقطع التوبة بعد ذلك وإنما تقطع الحجة التي جعلها الله للعبد بفضله، ومع ذلك فالرجاء باق بدليل حديث عتبان وما ذكر معه‏.‏

قلت‏:‏ وعلى ما وقع في الأصول فهذه مناسبة تعقيب الباب الماضي بهذا الباب‏.‏

قوله ‏(‏فيه سعد‏)‏ كذا للجميع، وسقط للنسفي وللإسماعيلي وغيرهما، وسعد فيما يظهر لي هو ابن أبي وقاص، وحديثه المشار إليه ما تقدم في المغازي وغيرها من رواية عامر بن سعد عن أبيه في قصة الوصية وفيه ‏"‏ الثلث والثلث كثير ‏"‏ وفيه قوله ‏"‏ فقلت يا رسول الله أخلف بعد أصحابي‏؟‏ قال‏:‏ إنك لن تخلف فتعمل عملا تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة ‏"‏ الحديث، وقد تقدم هذا اللفظ في كتاب الهجرة إلى المدينة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ وَزَعَمَ مَحْمُودٌ أَنَّهُ عَقَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ وَعَقَلَ مَجَّةً مَجَّهَا مِنْ دَلْوٍ كَانَتْ فِي دَارِهِمْ قَالَ سَمِعْتُ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ الْأَنْصارِيَّ ثُمَّ أَحَدَ بَنِي سَالِمٍ قَالَ غَدَا عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَنْ يُوَافِيَ عَبْدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّارَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا معاذ بن أسد‏)‏ هو المروزي، وشيخه عبد الله هو ابن المبارك‏.‏

قوله ‏(‏غدا علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لن يوافي‏)‏ هكذا أورده مختصرا، وليس هذا القول معقبا بالغدو بل بينهما أمور كثيرة من دخول النبي صلى الله عليه وسلم منزله وصلاته فيه وسؤالهم أن يتأخر عندهم حتى يطعموه وسؤاله عن مالك بن الدخشم وكلام من وقع في حقه والمراجعة في ذلك، وفي آخره ذلك القول المذكور هنا، وقد أورده في ‏"‏ باب المساجد في البيوت ‏"‏ في أوائل الصلاة وأورده أيضا مطولا من طريق إبراهيم بن سعد عن الزهري في أبواب صلاة التطوع، فخرج منه أيضا في أوائل الصلاة في ‏"‏ باب إذا زار قوما فصلى عندهم ‏"‏ عن معاذ بن أسد بالسند المذكور في حديث الباب من المتن طرفا غير المذكور هنا، وقوله في هذه الرواية ‏"‏ حرم الله عليه النار ‏"‏ وقع في الرواية الماضية ‏"‏ حرمه الله على النار ‏"‏ قال الكرماني ما ملخصه‏:‏ والمعنى واحد لوجود التلازم بين الأمرين، واللفظ الأول هو الحقيقة لأن النار تأكل ما يلقى فيها، والتحريم يناسب الفاعل فيكون اللفظ الثاني مجازا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَمْرٍو عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى مَا لِعَبْدِي الْمُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ إِذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا ثُمَّ احْتَسَبَهُ إِلَّا الْجَنَّةُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏يعقوب بن عبد الرحمن‏)‏ هو الإسكندراني‏.‏

قوله ‏(‏عن عمرو‏)‏ هو ابن أبي عمرو مولى المطلب‏.‏

قوله ‏(‏إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ يقول الله تعالى ما لعبدي المؤمن عندي جزاء‏)‏ أي ثواب ولم أر لفظ جزاء في رواية الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان، ولأبي نعيم من طريق السراج كلاهما عن قتيبة‏.‏

قوله ‏(‏إذا قبضت صفيه‏)‏ بفتح الصاد المهملة وكسر الفاء وتشديد التحتانية وهو الحبيب المصافي كالولد والأخ وكل من يحبه الإنسان، والمراد بالقبض قبض روحه وهو الموت‏.‏

قوله ‏(‏ثم احتسبه إلا الجنة‏)‏ قال الجوهري احتسب ولده إذا مات كبيرا‏.‏

فإن مات صغيرا قيل أفرطه، وليس هذا التفصيل مرادا هنا بل المراد باحتسبه صبر على فقده راجيا الأجر من الله على ذلك، وأصل الحسبة بالكسر الأجرة، والاحتساب طلب الأجر من الله تعالى خالصا‏.‏

واستدل به ابن بطال على أن من مات له ولد واحد يلتحق بمن مات له ثلاثة وكذا اثنان، وأن قول الصحابي كما مضى في ‏"‏ باب فضل من مات له ولد ‏"‏ من كتاب الجنائز ‏"‏ ولم نسأله عن الواحد ‏"‏ لا يمنع من حصول الفضل لمن مات له واحد، فلعله صلى الله عليه وسلم سئل بعد ذلك عن الواحد فأخبر بذلك، أو أنه أعلم بأن حكم الواحد حكم ما زاد عليه فأخبر به‏.‏

قلت‏:‏ وقد تقدم في الجنائز تسمية من سأل عن ذلك، والرواية التي فيها ‏"‏ ثم لم نسأله عن الواحد ‏"‏ ولم يقع لي إذ ذاك وقوع السائل عن الواحد‏.‏

وقد وجدت من حديث جابر ما أخرجه أحمد من طريق محمود ابن أسد عن جابر وفيه ‏"‏ قلنا يا رسول الله واثنان‏؟‏ قال‏:‏ واثنان‏.‏

قال محمود فقلت لجابر أراكم لو قلتم واحدا لقال واحد، قال وأنا والله أظن ذاك ‏"‏ ورجاله موثقون‏.‏

وعند أحمد والطبراني من حديث معاذ رفعه ‏"‏ أوجب ذو الثلاثة‏.‏

فقال له معاذ‏:‏ وذو الاثنين‏؟‏ قال‏:‏ وذو الاثنين ‏"‏ زاد في رواية الطبراني قال ‏"‏ أو واحد ‏"‏ وفي سنده ضعف‏.‏

وله في الكبير والأوسط من حديث جابر بن سمرة رفعه ‏"‏ من دفن له ثلاثة فصبر ‏"‏ الحديث وفيه ‏"‏ فقالت أم أيمن‏:‏ وواحد‏؟‏ فسكت ثم قال‏:‏ يا أم أيمن من دفن واحدا فصبر عليه واحتسبه وجبت له الجنة ‏"‏ وفي سندهما ناصح بن عبد الله وهو ضعيف جدا‏.‏

ووجه الدلالة من حديث الباب أن الصفي أعم من أن يكون ولدا أم غيره وقد أفرد وتب الثواب بالجنة لمن مات له فاحتسبه، ويدخل هذا ما أخرجه أحمد والنسائي من حديث قرة بن إياس ‏"‏ أن رجلا كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ابن له، فقال‏:‏ أتحبه‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏

ففقده فقال ما فعل فلان‏؟‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله مات ابنه، فقال‏:‏ ألا تحب أن لا تأتي بابا من أبواب الجنة، إلا وجدته ينتظرك‏.‏

فقال رجل‏:‏ يا رسول الله أله خاصة أم لكلنا‏؟‏ قال‏:‏ بل لكلكم ‏"‏ وسنده على شرط الصحيح وقد صححه ابن حبان والحاكم‏.‏

*3*باب مَا يُحْذَرُ مِنْ زَهَرَةِ الدُّنْيَا وَالتَّنَافُسِ فِيهَا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها‏)‏ المراد بزهرة الدنيا بهجتها ونضارتها وحسنها والتنافس يأتي بيانه في الباب‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَمْرَو بْنَ عَوْفٍ وَهُوَ حَلِيفٌ لِبَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ كَانَ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ صَالَحَ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَالٍ مِنْ الْبَحْرَيْنِ فَسَمِعَتْ الْأَنْصَارُ بِقُدُومِهِ فَوَافَتْهُ صَلَاةَ الصُّبْحِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا انْصَرَفَ تَعَرَّضُوا لَهُ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَآهُمْ وَقَالَ أَظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ بِقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ وَأَنَّهُ جَاءَ بِشَيْءٍ قَالُوا أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُلْهِيَكُمْ كَمَا أَلْهَتْهُمْ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏إسماعيل بن عبد الله‏)‏ هو ابن أبي أويس‏.‏

قوله ‏(‏عن موسى بن عقبة‏)‏ هو عم إسماعيل الراوي عنه‏.‏

قوله ‏(‏قال‏:‏ قال ابن شهاب‏)‏ هو الزهري قوله ‏(‏أن عمرو بن عوف‏)‏ تقدم بيان نسبه في الجزية‏.‏

وفي السند ثلاثة من التابعين في نسق وهم موسى وابن شهاب وعروة وصحابيان وهما المسور وعمرو، كلهم مدنيون وكذا بقية رجال الإسناد من إسماعيل فصاعدا‏.‏

قوله ‏(‏إلى البحرين‏)‏ سقط ‏"‏ إلى ‏"‏ من رواية الأكثر وثبتت للكشميهني‏.‏

قوله ‏(‏فواقفت‏)‏ في رواية المستملي والكشميهني ‏"‏ فوافقت‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فوالله ما الفقر أخشى عليكم‏)‏ بنصب الفقر أي ما أخشى عليكم الفقر، ويجوز الرفع بتقدير ضمير أي ما الفقر أخشاه عليكم، والأول هو الراجح، وخص بعضهم جواز ذلك بالشعر، وهذه الخشية يحتمل أن يكون سببها علمه أن الدنيا ستفتح عليهم ويحصل لهم الغنى بالمال، وقد ذكر ذلك في أعلام النبوة مما أخبر صلى الله عليه وسلم بوقوعه قبل أن يقع فوقع‏.‏

وقال الطيبي‏:‏ فائدة تقديم المفعول هنا الاهتمام بشأن الفقر، فإن الوالد المشفق إذا حضره الموت كان اهتمامه بحال ولده في المال، فأعلم صلى الله عليه وسلم أصحابه أنه وإن كان لهم في الشفقة عليهم كالأب لكن حاله في أمر المال يخالف حال الوالد، وأنه لا يخشى عليهم الفقر كما يخشاه الوالد، ولكن يخشى عليهم من الغني الذي هو مطلوب الوالد لولده‏.‏

والمراد بالفقر العهدي وهو ما كان عليه الصحابة من قلة الشيء ويحتمل الجنس والأول أولى، ويحتمل أن يكون أشار بذلك إلى أن مضرة الفقر دون مضرة الغنى، لأن مضرة الفقر دنيوية غالبا ومضرة الغنى دينية غالبا‏.‏

قوله ‏(‏فتنافسوها‏)‏ بفتح المثناة فيها، والأصل فتنافسوا فحذفت إحدى التاءين، والتنافس من المنافسة وهي الرغبة في الشيء ومحبة الانفراد به والمغالبة عليه، وأصلها من الشيء النفيس في نوعه، يقال نافست في الشيء منافسة ونفاسة ونفاسا، ونفس الشيء بالضم نفاسة صار مرغوبا فيه، ونفست به بالكسر بخلت، ونفست عليه لم أره أهلا لذلك‏.‏

قوله ‏(‏فتهلككم‏)‏ أي لأن المال مرغوب فيه فترتاح النفس لطلبه فتمنع منه فتقع العداوة المقتضية للمقاتلة المفضية إلى الهلاك‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ فيه أن زهرة الدنيا ينبغي لمن فتحت عليه أن يحذر من سوء عاقبتها وشر فتنتها، فلا يطمئن إلى زخرفها ولا ينافس غيره فيها، ويستدل به على أن الفقر أفضل من الغنى لأن فتنة الدنيا مقرونة بالغنى والغنى مظنة الوقوع في الفتنة التي قد تجر إلى هلاك النفس غالبا والفقير آمن من ذلك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَوْمًا فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ إِنِّي فَرَطُكُمْ وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ وَإِنِّي وَاللَّهِ لَأَنْظُرُ إِلَى حَوْضِي الْآنَ وَإِنِّي قَدْ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الْأَرْضِ أَوْ مَفَاتِيحَ الْأَرْضِ وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي وَلَكِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا

الشرح‏:‏

حديث عقبة بن عامر في صلاته صلى الله عليه وسلم على شهداء أحد بعد ثمان سنين، وقد تقدم شرحه مستوفى في أواخر كتاب الجنائز وعلامات النبوة، وقوله ‏"‏أنا فرطكم ‏"‏ بفتح الفاء والراء أي السابق إليه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ أَكْثَرَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ قِيلَ وَمَا بَرَكَاتُ الْأَرْضِ قَالَ زَهْرَةُ الدُّنْيَا فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ هَلْ يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ فَصَمَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ يُنْزَلُ عَلَيْهِ ثُمَّ جَعَلَ يَمْسَحُ عَنْ جَبِينِهِ فَقَالَ أَيْنَ السَّائِلُ قَالَ أَنَا قَالَ أَبُو سَعِيدٍ لَقَدْ حَمِدْنَاهُ حِينَ طَلَعَ ذَلِكَ قَالَ لَا يَأْتِي الْخَيْرُ إِلَّا بِالْخَيْرِ إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ وَإِنَّ كُلَّ مَا أَنْبَتَ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ إِلَّا آكِلَةَ الْخَضِرَةِ أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امْتَدَّتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ الشَّمْسَ فَاجْتَرَّتْ وَثَلَطَتْ وَبَالَتْ ثُمَّ عَادَتْ فَأَكَلَتْ وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ حُلْوَةٌ مَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ وَوَضَعَهُ فِي حَقِّهِ فَنِعْمَ الْمَعُونَةُ هُوَ وَمَنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ

الشرح‏:‏

حديث أبي سعيد‏.‏

قوله ‏(‏إسماعيل‏)‏ هو ابن أبي أويس، وقد وافقه في رواية هذا الحديث عن مالك بتمامه ابن وهب وإسحاق بن محمد وأبو قرة، ورواه معن بن عيسى والوليد بن مسلم عن مالك مختصرا منهما طرفا، وليس هو في الموطأ قاله الدار قطني في ‏"‏ الغرائب‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن أكثر ما أخاف عليكم‏)‏ في رواية هلال بن أبي ميمونة عن عطاء بن يسار الماضية في كتاب الزكاة في أوله ‏"‏ إنه سمع أبا سعيد الخدري يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس ذات يوم على المنبر وجلسنا حوله فقال‏:‏ إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم ‏"‏ وفي رواية السرخسي ‏"‏ إني مما أخاف ‏"‏ وما في قوله ما يفتح في موضع نصب لأنها اسم أن، و ‏"‏ مما ‏"‏ في قوله ‏"‏ إن مما ‏"‏ في موضع رفع لأنها الخبر‏.‏

قوله ‏(‏زهرة الدنيا‏)‏ زاد هلال ‏"‏ وزينتها ‏"‏ وهو عطف تفسير، وزهرة الدنيا بفتح الزاي وسكون الهاء‏.‏

وقد قرئ في الشاذ عن الحسن وغيره بفتح الهاء فقيل هما بمعنى مثل جهرة وجهرة، وقيل بالتحريك جمع زاهر كفاجر وفجرة، والمراد بالزهرة الزينة والبهجة كما في الحديث، والزهرة مأخوذة من زهرة الشجر وهو نورها بفتح النون، والمراد ما فيها من أنواع المتاع والعين والثياب والزروع وغيرها مما يفتخر الناس بحسنه مع قلة البقاء‏.‏

قوله ‏(‏فقال رجل‏)‏ لم أقف على اسمه‏.‏

قوله ‏(‏هل يأتي‏)‏ في رواية هلال ‏"‏ أو يأتي ‏"‏ وهي بفتح الواو والهمزة للاستفهام والواو عاطفة على شيء مقدر أي تصير النعمة عقوبة‏؟‏ لأن زهرة الدنيا نعمة من الله فهل تعود هذه النعمة نقمة‏؟‏ وهو استفهام استرشاد لا إنكار، والباء في قوله ‏"‏ بالشر ‏"‏ صلة ليأتي، أى هل يستجلب الخير الشر‏؟‏ ‏.‏

قوله ‏(‏ظننت‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ ظننا ‏"‏ وفي رواية هلال ‏"‏ فرئينا ‏"‏ بضم الراء وكسر الهمزة وفي رواية الكشميهني ‏"‏ فأرينا ‏"‏ بضم الهمزة‏.‏

قوله ‏(‏ينزل عليه‏)‏ أي الوحي، وكأنهم فهموا ذلك بالقرينة من الكيفية التي جرت عادته بها عندما يوحى إليه‏.‏

قوله ‏(‏ثم جعل يمسح عن جبينه‏)‏ في رواية الدار قطني ‏"‏ العرق ‏"‏ وفي رواية هلال ‏"‏ فيمسح عنه الرحضاء ‏"‏ بضم الراء وفتح المهملة ثم المعجمة والمد هو ‏"‏ العرق ‏"‏ وقيل الكثير، وقيل عرق الحمى، وأصل الرخص بفتح ثم سكون الغسيل، ولهذا فسره الخطابي أنه عرق يرخص الجلد لكثرته‏.‏

قوله ‏(‏قال أبو سعيد لقد حمدناه حين طلع لذلك‏)‏ في رواية المستملي ‏"‏ حين طلع ذلك ‏"‏ وفي رواية هلال ‏"‏ وكأنه حمده‏"‏‏.‏

والحاصل أنهم لاموه أولا حيث رأوا سكوت النبي صلى الله عليه وسلم فظنوا أنه أغضبه، ثم حمدوه آخرا لما رأوا مسألته سببا لاستفادة ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وأما قوله ‏"‏ وكأنه حمده ‏"‏ فأخذوه من قرينة الحال‏.‏

قوله ‏(‏لا يأتي الخير إلا بالخير‏)‏ زاد في رواية الدار قطني تكرار ذلك ثلاث مرات‏.‏

وفي رواية هلال ‏"‏ إنه لا يأتي الخير بالشر ‏"‏ ويؤخذ منه أن الرزق ولو كثر فهو من جملة الخير، إنما يعرض له الشر بعارض البخل به عمن يستحقه والإسراف في إنفاقه فيما لم يشرع، وأن كل شيء قضى الله أن يكون خيرا فلا يكون شرا وبالعكس، ولكن يخشى على من رزق الخير أن يعرض له في تصرفه فيه ما يجلب له الشر‏.‏

ووقع في مرسل سعيد المقبري عند سعيد بن منصور ‏"‏ أو خير هو‏؟‏ ثلاث مرات ‏"‏ وهو استفهام إنكار، أي أن المال ليس خيرا حقيقيا وإن سمي خيرا لأن الخير الحقيقي هو ما يعرض له من الإنفاق في الحق، كما أن الشر الحقيقي فيه ما يعرض له من الإمساك عن الحق والإخراج في الباطل، وما ذكر في الحديث بعد ذلك من قوله ‏"‏ إن هذا المال خضرة حلوة ‏"‏ كضرب المثل بهذه الجملة‏.‏

قوله ‏(‏إن هذا المال‏)‏ في رواية الدار قطني ‏"‏ ولكن هذا المال إلخ ‏"‏ ومعناه أن صورة الدنيا حسنة مونقة، والعرب تسمى كل شيء مشرق ناضر أخضر‏.‏

وقال ابن الأنباري‏:‏ قوله ‏"‏ المال خضرة حلوة ‏"‏ ليس هو صفة المال وإنما هو للتشبيه‏.‏

كأنه قال‏:‏ المال كالبقلة الخضراء الحلوة، أو التاء في قوله خضرة وحلوة باعتبار ما يشتمل عليه المال من زهرة الدنيا، أو على معنى فائدة المال أي أن الحياة به أو العيشة، أو أن المراد بالمال هنا الدنيا لأنه من زينتها، قال الله تعالى ‏(‏المال والبنون زينة الحياة الدنيا‏)‏ وقد وقع في حديث أبي سعيد أيضا المخرج في السنن ‏"‏ الدنيا خضرة حلوة ‏"‏ فيتوافق الحديثان، ويحتمل أن تكون التاء فيهما للمبالغة‏.‏

قوله ‏(‏وإن كل ما أنبت الربيع‏)‏ أي الجدول، وإسناد الإثبات إليه مجازي والمنبت في الحقيقة هو الله تعالى‏.‏

وفي رواية هلال ‏"‏ وأن مما ينبت ‏"‏ ومما في قوله مما ينبت للتكثير وليست من للتبعيض لتوافق رواية ‏"‏ كل ما أنبت ‏"‏ وهذا الكلام كله وقع كالمثل للدنيا، وقد وقع التصريح بذلك في مرسل سعيد المقبري‏.‏

قوله ‏(‏يقتل حبطا أو يلم‏)‏ أما حبطا فبفتح المهملة والموحدة والطاء مهملة أيضا، والحبط انتفاخ البطن من كثرة الأكل يقال حبطت الدابة تحبط حبطا إذا أصابت مرعى طيبا فأمعنت في الأكل حتى تنتفخ فتموت، وروي بالخاء المعجمة من التخبط وهو الاضطراب والأول المعتمد، وقوله ‏"‏يلم ‏"‏ بضم أوله أي يقرب من الهلاك‏.‏

قوله ‏(‏إلا‏)‏ بالتشديد على الاستثناء، وروي بفتح الهمزة وتخفيف اللام للاستفتاح‏.‏

قوله ‏(‏آكلة‏)‏ بالمد وكسر الكاف، ‏"‏ الخضر ‏"‏ بفتح الخاء وكسر الضاد المعجمتين للأكثر وهو ضرب من الكلأ يعجب الماشية وواحدة خضرة وفي رواية الكشميهني بضم الخاء وسكون الضاد وزيادة الهاء في آخره‏.‏

وفي رواية السرخسي ‏"‏ الخضراء ‏"‏ بفتح أوله وسكون ثانيه وبالمد، ولغيرهم بضم أوله وفتح ثانيه جمع خضرة‏.‏

قوله ‏(‏امتلأت خاصرتاها‏)‏ تثنية خاصرة بخاء معجمة وصاد مهملة وهما جانبا البطن من الحيوان‏.‏

وفي رواية الكشميهني ‏"‏ خاصرتها ‏"‏ بالإفراد‏.‏

قوله ‏(‏أتت‏)‏ بمثناة أي جاءت وفي رواية هلال ‏"‏ استقبلت‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏اجترت‏)‏ بالجيم أي استرفعت ما أدخلته في كرشها من العلف فأعادت مضغه‏.‏

قوله ‏(‏وثلطت‏)‏ بمثلثة ولام مفتوحتين ثم طاء مهملة وضبطها ابن التين بكسر اللام أي ألقت ما في بطنها رقيقا، زاد الدار قطني ‏"‏ ثم عادت فأكلت ‏"‏ والمعنى أنها إذا شبعت فثقل عليها ما أكلت تحيلت في دفعه بأن تجتر فيزداد نعومة، ثم تستقبل الشمس فتحمي بها فيسهل خروجه؛ فإذا خرج زال الانتفاخ فسلمت، وهذا بخلاف من لم تتمكن من ذلك فإن الانتفاخ يقتلها سريعا، قال الأزهري‏:‏ هذا الحديث إذا فرق لم يكد يظهر معناه، وفيه مثلان أحدهما للمفرط في جميع الدنيا المانع من إخراجها في وجهها وهو ما تقدم أي الذي يقتل حبطا‏.‏

والثاني المقتصد في جمعها وفي الانتفاع بها وهو آكلة الخضر فإن الخضر ليس من أحرار البقول التي ينبتها الربيع ولكنها الحبة والحبة ما فوق البقل ودون الشجر التي ترعاها المواشي بعد هيج البقول، فضرب آكلة الخضر من المواشي مثلا لمن يقتصد في أخذ الدنيا وجمعها ولا يحمله الحرص على أخذها بغير حقها ولا منعها من مستحقها، فهو ينجو من وبالها كما نجت آكلة الخضر، وأكثر ما تحبط الماشية إذا انحبس رجيعها في بطنها‏.‏

وقال الزين بن المنير‏:‏ آكلة الخضر هي بهيمة الأنعام التي ألف المخاطبون أحوالها في سومها ورعيها وما يعرض لها من البشم وغيره، والخضر والنبات الأخضر وقيل حرار العشب التي تستلذ الماشية أكله فتستكثر منه، وقيل هو ما ينبت بعد إدراك العشب وهياجه فإن الماشية تقتطف منه مثلا شيئا فشيئا ولا يصيبنها منه ألم، وهذا الأخير فيه نظر فإن سياق الحديث يقتضى وجود الحبط للجميع إلا لمن وقعت منه المداومة حتى اندفع عنه ما يضره، وليس المراد أن آكلة الخضر لا يحصل لها من أكله ضرر البتة، والمستنى آكلة الخضر بالوصف المذكور لا كل من اتصف بأنه آكلة الخضر، ولعل قائله وقعت له رواية فيها ‏"‏ يقتل أو يلم إلا آكلة الخضر ‏"‏ ولم يذكر ما بعده فشرحه على ظاهر هذا الاختصار‏.‏

قوله ‏(‏فنعم المعونة‏)‏ هو في رواية هلال ‏"‏ فنعم صاحب المسلم هو‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏وإن أخذه بغير حقه‏)‏ في رواية هلال ‏"‏ وأنه من يأخذه بغير حقه‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏كالذي يأكل ولا يشبع‏)‏ زاد هلال ‏"‏ ويكون شهيدا عليه يوم القيامة ‏"‏ يحتمل أن يشهد عليه حقيقة بأن ينطقه الله تعالى، ويجوز أن يكون مجازا، والمراد شهادة الملك الموكل به‏.‏

ويؤخذ من الحديث التمثيل لثلاثة أصناف، لأن الماشية إذا رعت الخضر للتغذية إما أن تقتصر منه على الكفاية، وإما أن تستكثر، الأول الزهاد والثاني إما أن يحتال على إخراج ما لو بقي لضر فإذا أخرجه زال الضر واستمر النفع، وإما أن يهمل ذلك، الأول العاملون في جميع الدنيا بما يجب من إمساك وبذل، والثاني العاملون في ذلك بخلاف ذلك‏.‏

وقال الطيبي‏:‏ يؤخذ منه أربعة أصناف‏:‏ فمن أكل منه أكل مستلذ مفرط منهمك حتى تنتفخ أضلاعه ولا يقلع فيسرع إليه الهلاك، ومن أكل كذلك لكنه أخذ في الاحتيال لدفع الداء بعد أن استحكم فغلبه فأهلكه، ومن أكل كذلك لكنه بادر إلى إزالة ما يضره ويحيل في دفعه حتى انهضم فيسلم، ومن أكل غير مفرط ولا منهمك وإنما اقتصر على ما يسد جوعته ويمسك رمقه، فالأول مثال الكافر والثاني مثال العاصي الغافل عن الإقلاع والتوبة إلا عند فوتها والثالث مثال للمخلط المبادر للتوبة حيث تكون مقبولة والرابع مثال الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة، وبعضها لم يصرح به في الحديث وأخذه منه محتمل، وقوله ‏"‏فنعم المعونة ‏"‏ كالتذييل للكلام المتقدم، وفيه حذف تقديره إن عمل فيه بالحق‏.‏

وفيه إشارة إلى عكسه، وهو بئس الرفيق هو لمن عمل فيه بغير الحق، وقوله ‏"‏كالذي يأكل ولا يشبع ‏"‏ ذكر في مقابلة ‏"‏ فنعم المعونة هو ‏"‏ وقوله ‏"‏ ويكون شهيدا عليه ‏"‏ أي حجة يشهد عليه بحرصه وإسرافه وإنفاقه فيما لا يرضى الله‏.‏

وقال الزين بن المنير‏:‏ في هذا الحديث وجوه من التشبيهات بديعة‏:‏ أولها تشبيه المال ونموه بالنبات وظهوره، ثانيها تشبيه المنهمك في الاكتساب والأسباب بالبهائم المنهمكة في الأعشاب، وثالثها تشبيه الاستكثار منه والادخار له بالشره في الأكل والامتلاء منه، ورابعها تشبيه الخارج من المال مع عظمته في النفوس حتى أدى إلى المبالغة في البخل به بما تطرحه البهيمة من السلح ففيه إشارة بديعة إلى استقذاره شرعا، وخامسها تشبيه المتقاعد عن جمعه وضمه بالشاه إذا استراحت وحطت جانبها مستقبلة عين الشمس فإنها من أحسن حالاتها سكونا وسكينة وفيه إشارة إلى إدراكها لمصالحها، وسادسها تشبيه موت الجامع المانع بموت البهيمة الغافلة عن دفع ما يضرها، وسابعها تشبيه المال بالصاحب الذي لا يؤمن أن ينقلب عدوا، فإن المال من شأنه أن يحرز ويشد وثاقه حبا له وذلك يقتضي منعه من مستحقه فيكون سببا لعقاب مقتنيه، وثامنها تشبيه آخذه بغير حق بالذي يأكل ولا يشبع‏.‏

وقال الغزالي‏:‏ مثل المال مثل الحية التي فيها ترياق نافع وسم ناقع، فإن أصابها العارف الذي يحترز عن شرها ويعرف استخراج ترياقها كان نعمة، وإن أصابها الغبي فقد لقي البلاء المهلك‏.‏

وفي الحديث جلوس الإمام على المنبر عند الموعظة في غير خطبة الجمعة ونحوها‏.‏

وفيه جلوس الناس حوله والتحذير من المنافسة في الدنيا‏.‏

وفيه استفهام العالم عما يشكل وطلب الدليل لدفع المعارضة‏.‏

وفيه تسمية المال خيرا، ويؤيده قوله تعالى ‏(‏وإنه لحب الخير لشديد‏)‏ وفي قوله تعالى ‏(‏إن ترك خيرا‏)‏ ‏.‏

وفيه ضرب المثل بالحكمة وإن وقع في اللفظ ذكر ما يستهجن كالبول فإن ذلك يغتفر لما يترتب على ذكره من المعاني اللائقة بالمقام‏.‏

وفيه أنه صلى الله عليه وسلم كان ينتظر الوحي عند إرادة الجواب عما يسأل عنه، وهذا على ما ظنه الصحابة، ويجوز أن يكون سكوته ليأتي بالعبارة الوجيزة الجامعة المفهمة‏.‏

وقد عد ابن دريد هذا الحديث وهو قوله ‏"‏ إن مما ينبت الربيع يقتل حبطا أو يلم ‏"‏ من الكلام المفرد الوجيز الذي لم يسبق صلى الله عليه وسلم إلى معناه، وكل من وقع شيء منه في كلامه فإنما أخذه منه‏.‏

ويستفاد منه ترك العجلة في الجواب إذا كان يحتاج إلى التأمل‏.‏

وفيه لوم من ظن به تعنت في السؤال وحمد من أجاد فيه، ويؤيد أنه من الوحي قوله يمسح العرق فإنها كانت عادته عند نزول الوحي كما تقدم في بدء الوحي ‏"‏ وإن جبينه ليتفصد عرقا ‏"‏ وفيه تفضيل الغني على الفقير، ولا حجة فيه لأنه يمكن التمسك به لمن لم يرجح أحدهما على الآخر‏.‏

والعجب أن النووي قال‏:‏ فيه حجة لمن رجح الغني على الفقير، وكان قبل ذلك شرح قوله ‏"‏ لا يأتي الخير إلا بالخير ‏"‏ على أن المراد أن الخير الحقيقي لا يأتي إلا بالخير، لكن هذه الزهرة ليست خيرا حقيقيا لما فيها من الفتنة والمنافسة والاشتغال عن كمال الإقبال على الآخرة‏.‏

قلت‏:‏ فعلى هذا يكون حجة لمن يفضل الفقر على الغنى والتحقيق أن لا حجة فيه لأحد القولين‏.‏

وفيه الحض على إعطاء المسكين واليتيم وابن السبيل‏.‏

وفيه أن المكتسب للمال من غير حله لا يبارك له فيه لتشبيهه بالذي يأكل ولا يشبع‏.‏

وفيه ذم الإسراف وكثرة الأكل والنهم فيه، وأن اكتساب المال من غير حله وكذا إمساكه عن إخراج الحق منه سبب لمحقه فيصير عير مبارك كما قال تعالى ‏(‏يمحق الله الربا ويربي الصدقات‏)‏ ‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا جَمْرَةَ قَالَ حَدَّثَنِي زَهْدَمُ بْنُ مُضَرِّبٍ قَالَ سَمِعْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ خَيْرُكُمْ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ قَالَ عِمْرَانُ فَمَا أَدْرِي قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ قَوْلِهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ وَيَنْذُرُونَ وَلَا يَفُونَ وَيَظْهَرُ فِيهِمْ السِّمَنُ

الشرح‏:‏

حديث عمران بن حصين‏.‏

قوله ‏(‏سمعت أبا جمرة‏)‏ هو بالجيم والراء وهو الضبعي نصر بن عمران، وقد روى شعبة عن أبي حمزة بالمهملة والزاي حديثا لكنه عند مسلم دون البخاري، وليس لشعبة في البخاري عن أبي جمرة بهذه الصورة إلا عن نصر بن عمران‏.‏

وزهدم بالزاي وزن جعفر ومضرب بالضاد المعجمة ثم الموحدة والتشديد باسم الفاعل، وقد تقدم شرح هذا الحديث في الشهادات وفي أول فضائل الصحابة، وكذا الحديث الذي بعده‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَجِيءُ مِنْ بَعْدِهِمْ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَتُهُمْ أَيْمَانَهُمْ وَأَيْمَانُهُمْ شَهَادَتَهُمْ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عن أبي حمزة‏)‏ بالمهملة والزاي هو محمد بن ميمون السكري، وإبراهيم هو النخعي، وعبيدة بفتح أوله هو ابن عمرو‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ قَيْسٍ قَالَ سَمِعْتُ خَبَّابًا وَقَدْ اكْتَوَى يَوْمَئِذٍ سَبْعًا فِي بَطْنِهِ وَقَالَ لَوْلَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَانَا أَنْ نَدْعُوَ بِالْمَوْتِ لَدَعَوْتُ بِالْمَوْتِ إِنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَضَوْا وَلَمْ تَنْقُصْهُمْ الدُّنْيَا بِشَيْءٍ وَإِنَّا أَصَبْنَا مِنْ الدُّنْيَا مَا لَا نَجِدُ لَهُ مَوْضِعًا إِلَّا التُّرَابَ

الشرح‏:‏

حديث خباب أورده من طريقين في الأولى زيادة على ما في الثانية، وهو حديث واحد ذكر فيه بعض الرواة ما لم يذكر بعض وأبهم شيئا قاله شعبة، وقد تقدمت روايته له عن إسماعيل بن أبي خالد في أواخر كتاب المرضي قبل كتاب الطب وشرح هناك وزاد أحمد عن وكيع بهذا السند في هذا المتن فقال في أوله ‏"‏ دخلنا على خباب نعوده وهو يبني حائطا له فقال‏:‏ إن المسلم يؤجر في كل شيء إلا ما يجعله في هذا التراب ‏"‏ وقد تقدم شرح هذه الزيادة هناك‏.‏

وإسماعيل في الطريقين هر ابن أبي خالد، وقيس هو ابن أبي حازم ورجال الإسناد من وكيع فصاعدا كوفيون، ويحيى في السند الثاني هو ابن سعيد القطان وهو بصري‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنِي قَيْسٌ قَالَ أَتَيْتُ خَبَّابًا وَهُوَ يَبْنِي حَائِطًا لَهُ فَقَالَ إِنَّ أَصْحَابَنَا الَّذِينَ مَضَوْا لَمْ تَنْقُصْهُمْ الدُّنْيَا شَيْئًا وَإِنَّا أَصَبْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ شَيْئًا لَا نَجِدُ لَهُ مَوْضِعًا إِلَّا التُّرَابَ

الشرح‏:‏

انظر الحديث السابق

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ خَبَّابٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ هَاجَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصَّهُ

الشرح‏:‏

حديث خباب أيضا، ورجاله من شيخ البخاري فصاعدا كوفيون، وسفيان هو الثوري‏.‏

قوله ‏(‏عن شقيق أبي وائل عن خباب‏)‏ تقدم في الهجرة من طريق يحيى بن سعيد القطان عن الأعمش ‏"‏ سمعت أبا وائل حدثنا خباب‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏هاجرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم قصه‏)‏ كذا لأبي ذر، وهو بفتح القاف وتشديد المهملة بعدها ضمير، والمراد أن الراوي قص الحديث وأشار به إلى ما أخرجه بتمامه في أول الهجرة إلى المدينة عن محمد بن كثير بالسند المذكور هنا وقرنه برواية يحيى القطان عن الأعمش وساقه بتمامه وقال بعد المذكور هنا ‏"‏ فوقع أجرنا على الله تعالى، فمنا من مضى لم يأخذ من أجره شيئا منهم مصعب بن عمير ‏"‏ الحديث، وقد تقدم ذكره في الجنائز وأحلت شرحه على ما هنا، وذكر في الهجرة في موضعين وفي غزوة أحد في موضعين وأحلت به في الهجرة على المغازي، ولم يتيسر في المغازي التعرض لشرحه ذهولا والله المستعان‏.‏

وسيأتي بعد ثمانية أبواب في ‏"‏ باب فضل الفقر ‏"‏ إن شاء الله تعالى‏.‏